سورة يوسف - تفسير تفسير الزمخشري

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يوسف)


        


{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)}
همّ بالأمر إذا قصده وعزم عليه، قال:
همَمْتُ وَلَمْ أفعل وَكِدْتُ وَلَيْتَنِي *** تَرَكْتُ عَلَى عُثْمانَ تَبْكي حَلاَئِلُهْ
ومنه قولك: لا أفعل ذلك ولا كيداً ولا هماً. أي ولا أكاد أن أفعله كيداً، ولا أهم بفعله هماً، حكاه سيبويه، ومنه: الهمام وهو الذي إذا همّ بأمر أمضاه ولم ينكل عنه. وقوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} معناه. ولقد همت بمخالطته {وَهَمَّ بِهَا} وهمّ بمخالطتها {لَوْلا أَن رأى بُرْهَانَ رَبّهِ} جوابه محذوف، تقديره: لولا أن رأى برهان ربه لخالطها، فحذف؛ لأنّ قوله: {وَهَمَّ بِهَا} يدل عليه، كقولك: هممت بقتله لولا أني خفت الله، معناه لولا أني خفت الله لقتلته.
فإن قلت: كيف جاز على نبيّ الله أن يكون منه هم بالمعصية وقصدٌ إليها؟ قلت المراد أنّ نفسه مالت إلى المخالطة ونازعت إليها عن شهوة الشباب وقرمه ميلاً يشبه الهم به والقصد إليه، وكما تقتضيه صورة تلك الحال التي تكاد تذهب بالعقول والعزائم. وهو يكسر ما به ويردّه بالنظر في برهان الله المأخوذ على المكلفين من وجوب اجتناب المحارم، ولو لم يكن ذلك الميل الشديد المسمى هماً لشدّته لما كان صاحبه ممدوحاً عند الله بالامتناع؛ لأن استعظام الصبر على الابتلاء، على حسب عظم الابتلاء وشدته. ولو كان همه كهمها عن عزيمة، لما مدحه الله بأنه من عباده المخلصين. ويجوز أن يريد بقوله: {وَهَمَّ بِهَا} وشارف أن يهم بها، كما يقول الرجل: قتلته لو لم أخف الله، يريد مشارفة القتل ومشافهته. كأنه شرع فيه فإن قلت: قوله {وَهَمَّ بِهَا} داخل تحت حكم القسم في قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} أم هو خارج منه؟ قلت: الأمران جائزان. ومن حق القارئ إذا قدّر خروجه من حكم القسم وجعله كلاماً برأسه أن يقف على قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} ويبتدئ قوله: {وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّءَا بُرْهَانَ رَبّهِ} وفيه أيضاً إشعار بالفرق بين الهمين.
فإن قلت: لم جعلت جواب لولا محذوفاً يدل عليه هم بها وهلا جعلته هو الجواب مقدماً فإن قلت: لأن لولا لا يتقدم عليها جوابها، من قبل أنه في حكم الشرط، وللشرط صدر الكلام وهو مع ما في حيزه من الجملتين مثل كلمة واحدة، ولا يجوز تقديم بعض الكلمة على بعض. وأما حذف بعضها إذا دلّ الدليل عليه فجائز، فإن قلت: فلم جعلت {لولا} متعلقة بهمّ بها وحده ولم تجعلها متعلقة بجملة قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} لأن الهمّ لا يتعلق بالجواهر ولكن بالمعاني. فلا بدّ من تقدير المخالطة والمخالطة لا تكون إلا من اثنين معاً، فكأنه قيل: ولقد هما بالمخالطة لولا أن منع مانع أحدهما؟ قلت: نعم ما قلت، ولكنّ الله سبحانه وتعالى قد جاء بالهمين على سبيل التفصيل حيث قال {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} فكان إغفاله إلغاء له، فوجب أن يكون التقدير، ولقد همت بمخالطته وهم بمخالطتها، على أنّ المراد بالمخالطتين توصلها إلى ما هو حظها من قضاء شهوتها منه، وتوصله إلى ما هو حظه من قضاء شهوته منها {لَوْلا أَن رَّءَا بُرْهَانَ رَبّهِ} فترك التوصل إلى حظه من الشهوة؛ فلذلك كانت {لولا} حقيقة بأن تعلق بهمّ بها وحده، وقد فسرهمّ يوسف بأنه حل الهميان وجلس منها مجلس المجامع، وبأنه حل تكة سراويله وقعد بين شعبها الأربع وهي مستلقية على قفاها، وفسر البرهان بأنه سمع صوتاً: إياك وإياها، فلم يكترث له، فسمعه ثانياً فلم يعمل به، فسمع ثالثاً: أعرض عنها فلم ينجع فيه حتى مثل له يعقوب عاضاً على أنملته.
وقيل: ضرب بيده في صدره فخرجت شهوته من أنامله. وقيل: كل ولد يعقوب له اثنا عشر ولداً إلا يوسف، فإنه ولد له أحد عشر ولداً من أجل ما نقص من شهوته حين همّ، وقيل: صيح به: يا يوسف، لا تكن كالطائر: كان له ريش، فلما زنى قعد لا ريش له. وقيل: بدت كف فيما بينهما ليس لها عضد ولا معصم، مكتوب فيها {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لحافظين كِرَاماً كاتبين} [الانفطار: 11] فلم ينصرف، ثم رأى فيها {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} [الإسراء: 32] فلم ينته، ثم رأى فيها {واتقوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله} [البقرة: 281] فلم ينجع فيه، فقال الله لجبريل عليه السلام: أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة، فانحط جبريل وهو يقول: يا يوسف، أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب في ديوان الأنبياء؟ وقيل: رأى تمثال العزيز. وقيل: قامت المرأة إلى صنم كان هناك فسترته وقالت: أستحي منه أن يرانا. فقال يوسف استحييت ممن لا يسمع ولا يبصر، ولا أستحي من السميع البصير، العليم بذوات الصدور. وهذا ونحوه. مما يورده أهل الحشو والجبر الذين دينهم بهت الله تعالى وأنبيائه، وأهل العدل والتوحيد ليسوا من مقالاتهم ورواياتهم بحمد الله بسبيل، ولو وُجِدَت من يوسف عليه السلام أدنى زلة لنُعِيت عليه وذُكِرَت توبته واستغفاره، كما نُعِيَت على آدم زلته، وعلى داود، وعلى نوح، وعلى أيوب، وعلى ذي النون، وذُكِرت توبتهم واستغفارهم، كيف وقد أثنى عليه وسمي مخلصاً، فعلم بالقطع أنه ثبت في ذلك المقام الدحض، وأنه جاهد نفسه مجاهدة أُولي القوّة والعزم، ناظراً في دليل التحريم ووجه القبح، حتى استحق من الله الثناء فيما أَنزل من كتب الأولين، ثم في القرآن الذي هو حجة على سائر كتبه ومصداق لها، ولم يقتصر إلا على استيفاء قصته وضرب صورة كاملة عليها، ليجعل له لسان صدق في الآخرين، كما جعله لجدّه الخليل إبراهيم عليه السلام، وليقتدي به الصالحون إلى آخر الدهر في العفة وطيب الإزار والتثبت في مواقف العثار، فأخزى الله أولئك في إيرادهم ما يؤدّي إلى أن يكون إنزال الله السورة التي هي أحسن القصص في القرآن العربي المبين ليقتدي بنبي من أنبياء الله، في القعود بين شعب الزانية وفي حل تكته للوقوع عليها، وفي أن ينهاه ربه ثلاث كرّات ويصاح به من عنده ثلاث صيحات بقوارع القرآن، وبالتوبيخ العظيم، وبالوعيد الشديد، وبالتشبيه بالطائر الذي سقط ريشه حين سفد غير أنثاه، وهو جاثم في مربضه لا يتحلحل ولا ينتهي ولا ينتبه، حتى يتداركه الله بجبريل وبإجباره، ولو أن أوقح الزناة وأشطرهم وأحدهم حدقة وأصلحهم وجهاً لقي بأدنى ما لقي به نبي الله مما ذكروا، لما بقي له عرق ينبض ولا عضو يتحرّك.
فيا له من مذهب ما أفحشه، ومن ضلال ما أبينه {كذلك} الكاف منصوب المحل، أي مثل ذلك التثبيت ثبتناه. أو مرفوعه، أي الأمر مثل ذلك {لِنَصْرِفَ عَنْهُ السوء} من خيانة السيد {والفحشاء} من الزنا {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين} الذين أخلصوا دينهم لله، وبالفتح الذين أخلصهم الله لطاعته بأن عصمهم. ويجوز أن يريد بالسوء. مقدّمات الفاحشة، من القبلة والنظر بشهوة، ونحو ذلك. وقوله: {مّنْ عِبَادِنَا} معناه بعض عبادنا، أي: هو مخلص من جملة المخلصين. أو هو ناشئ منهم، لأنه من ذرية إبراهيم الذين قال فيهم {إِنَّا أخلصناهم بِخَالِصَةٍ} [ص: 46].


{وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)}
{واستبقا الباب} وتسابقا إلى الباب على حذف الجارّ وإيصال الفعل، كقوله {واختار موسى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155] أو على تضمين {استبقا} معنى (ابتدرا) نفر منها يوسف، فأسرع يريد الباب ليخرج وأسرعت وراءه لتمنعه الخروج.
فإن قلت: كيف وجد الباب، وقد جمعه في قوله {وَغَلَّقَتِ الأبواب} [يوسف: 23] قلت: أراد الباب البراني الذي هو المخرج من الدار والمخلص من العار، فقد روى كعب أنه لما هرب يوسف جعل فراش القفل يتناثر ويسقط حتى خرج من الأبواب {وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ} اجتذبته من خلفه فانقد، أي انشق حين هرب منها إلى الباب وتبعته تمنعه {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا} وصادفا بعلها وهو قطفير، تقول المرأة لبعلها: سيدي. وقيل: إنما لم يقل سيدهما، لأنّ ملك يوسف لم يصح، فلم يكن سيداً له على الحقيقة. قيل: ألفياه مقبلاً يريد أن يدخل.
وقيل جالساً مع ابن عمّ للمرأة. لما اطلع منها زوجها على تلك الهيئة المريبة وهي مغتاظة على يوسف إذ لم يؤاتها جاءت بحيلة جمعت فيها غرضيها: وهما تبرئة ساحتها عند زوجها من الريبة والغضب على يوسف، وتخويفه طمعاً في أن يؤاتيها خيفة منها ومن مكرها، وكرها لما أيست من مؤاتاته طوعاً. ألا ترى إلى قولها: {وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا ءامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ} [يوسف: 32] و (ما) نافية، أي: ليس جزاؤه إلا السجن. ويجوز أن تكون استفهامية، بمعنى: أي شيء جزاؤه إلا السجن، كما تقول: مَنْ في الدار إلا زيد.
فإن قلت: كيف لم تصرح في قولها بذكر يوسف، وإنه أراد بها سوءاً؟ قلت: قصدت العموم، وأنّ كل من أراد بأهلك سوءاً فحقه أن يسجن أو يعذب، لأنّ ذلك أبلغ فيما قصدته من تخويف يوسف. وقيل: العذاب الأليم الضرب بالسياط. ولما أغرت به وعرّضته للسجن والعذاب وجب عليه الدفع عن نفسه فقال: {هِىَ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى} ولولا ذلك لكتم عليها {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا} قيل كان ابن عمّ لها، إنما ألقى الله الشهادة على لسان من هو من أهلها؛ لتكون أوجب للحجة عليها، وأوثق لبراءة يوسف، وأنفى للتهمة عنه. وقيل: هو الذي كان جالساً مع زوجها لدى الباب.
وقيل كان حكيماً يرجع إليه الملك ويستشيره ويجوز أن يكون بعض أهلها كان في الدار فبصر بها من حيث لا تشعر، فأغضبه الله ليوسف بالشهادة له والقيام بالحق. وقيل: كان ابن خال لها صبياً في المهد.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «تكلم أربعة وهم صغار: ابن ماشطة فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى» فإن قلت: لم سمي قوله شهادة وما هو بلفظ الشهادة؟ قلت: لما أدّى مؤدى الشهادة في أن ثبت به قول يوسف وبطل قولها سمي شهادة: فإن قلت: الجملة الشرطية كيف جازت حكايتها بعد فعل الشهادة؟ قلت: لأنها قول من القول، أو على إرادة القول، كأنه قيل: وشهد شاهد فقال إن كان قميصه.
فإن قلت: إن دل قدّ قميصه من دبر على أنها كاذبة وأنها هي التي تبعته واجتبذت ثوبه إليها فقدّته، فمن أين دل قدّه من قبل على أنها صادقة، وأنه كان تابعها؟ قلت: من وجهين، أحدهما: أنه إذا كان تابعها وهي دافعته عن نفسها قدت قميصه من قدّامه بالدفع.
والثاني: أن يسرع خلفها ليلحقها فيتعثر في مقادم قميصه فيشقه. وقرئ: {من قبل} ومن دبر، بالضم على مذهب الغايات. والمعنى: من قبل القميص ومن دبره. وأما التنكير فمعناه من جهة يقال لها قبل، ومن جهة يقال لها دبر.
وعن ابن أبي إسحاق أنه قرأ: {من قبل} و {من دبر} بالفتح، كأنه جعلهما علمين للجهتين فمنعهما الصرف للعلمية والتأنيث. وقرئا بسكون العين.
فإن قلت: كيف جاز الجمع بين (إن) الذي هو للاستقبال وبين (كان)؟ قلت: لأنّ المعنى أن يعلم أنه كان قميصه قدّ، ونحوه كقولك: إن أحسنت إليّ فقد أحسنت إليك من قبل، لمن يمتن عليك بإحسانه، تريد: إن تمتن عليَّ أمتنَّ عليك {فَلَماَّ رَّءَا} يعني قطفير وعلم براءة يوسف وصدقه وكذبها {قَالَ إِنَّهُ} إن قولك {مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءا} أو إنّ الأمر وهو طمعها في يوسف {مِن كَيْدِكُنَّ} الخطاب لها ولأمتها. وإنما استعظم كيد النساء لأنه وإن كان في الرجال، إلا أنّ النساء ألطف كيداً وأنفذ حيلة. ولهنّ في ذلك نيقة ورفق، وبذلك يغلبن الرجال. ومنه قوله تعالى: {وَمِن شَرّ النفاثات فِي العقد} [الفلق: 4] والقصريات من بينهنّ معهنّ ما ليس مع غيرهنّ من البوائق وعن بعض العلماء: أنا أخاف من النساء أكثر مما أخاف من الشيطان، لأنّ الله تعالى يقول: {إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً} [النساء: 76] وقال للنساء: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}. {يُوسُفَ} حذف منه حرف النداء لأنه منادى قريب مفاطن للحديث وفيه تقريب له وتلطيف لمحله {أَعْرِضْ عَنْ هذا} الأمر واكتمه ولا تحدّث به {واستغفرى} أنت {لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين} من جملة القوم المتعمدين للذنب. يقال: خطئ، إذا أذنب متعمداً، وإنما قال: {مِنَ الخاطئين} بلفظ التذكير تغليباً للذكور على الإناث، وما كان العزيز إلا رجلاً حليماً.
وروي أنه كان قليل الغيرة.


{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)}
{وَقَالَ نِسْوَةٌ} وقال جماعة من النساء وكنّ خمساً: امرأة الساقي، وامرأة الخباز، وامرأة صاحب الدواب، وامرأة صاحب السجن، وامرأة الحاجب. والنسوة اسم مفرد لجمع المرأة وتأنيثه غير حقيقي كتأنيث اللمة، ولذلك لم تلحق فعله تاء التأنيث. وفيه لغتان: كسر النون وضمها {فِى المدينة} في مصر {امرأت العزيز} يردن قطفير، والعزيز: الملك بلسان العرب {فتاها} غلامها. يقال: فتاي وفتاتي، أي غلامي وجاريتي {شَغَفَهَا} خرق حبه شغاف قلبها حتى وصل إلى الفؤاد، والشغاف حجاب القلب، وقيل جلدة رقيقة يقال لها لسان القلب. قال النابغة:
وَقَدْ حَالَ هَمٌّ دُونَ ذَلِكَ وَالِج *** مَكَانَ الشِّغَافِ تَبْتَغِيهِ الأَصَابِعُ
وقرئ: {شعفها} بالعين، من شعف البعير إذا هنأه فأحرقه بالقطران، قال:
كَمَا شَعَفَ المَهْنُوءَةَ الرَّجُلُ الطّالي ***
و{حَبّاً} نصب على التمييز {فِى ضلال مُّبِينٍ} في خطأ وبُعدٍ عن طريق الصواب {بِمَكْرِهِنَّ} باغتيابهنّ وسوء قالتهن، وقولهنّ: امرأة العزيز عشقت عبدها الكنعاني ومقتها، وسمي الاغتياب مكراً لأنه في خفية وحالِ غيبة، كما يخفي الماكر مكره. وقيل: كانت استكتمتهنّ سرّها فأفشينه عليها {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ} دعتهنّ. قيل: دعت أربعين امرأة منهنّ الخمس المذكورات {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً} ما يتكئن عليه من نمارق، قصدت بتلك الهيئة وهي قعودهنّ متكئات والسكاكين في أيديهنّ: أن يدهشن ويبهتن عند رؤيته، ويشغلن عن نفوسهنّ فتقع أيديهنّ على أيديهنّ فيقطعنها، لأن المتكئ إذا بهت لشيء وقعت يده على يده، ولا يبعد أن تقصد الجمع بين المكر به وبهنّ، فتضع الخناجر في أيديهنّ ليقطعن أيديهنّ، فتبكتهنّ بالحجة، ولتهول يوسف من مكرها إذا خرج على أربعين نسوة مجتمعات في أيديهنّ الخناجر، وتوهمه أنهنّ يثبن عليه. وقيل: متكأ: مجلس طعام لأنهم كانوا يتكؤن للطعام والشراب والحديث كعادة المترفين، ولذلك «نهى أن يأكل الرجل متكئاً» وأتتهنّ السكاكين ليعالجن بها ما يأكلن. وقيل: {مُتَّكَئاً} طعاماً، من قولك اتكأنا عند فلان: طعمنا، على سبيل الكناية؛ لأن من دعوته ليطعم عندك اتخذت له تكأة يتكئ عليها. قال جميل:
فَظَلَلْنَا بِنِعْمَةٍ واتَّكَأْنَا *** وَشَرِبْنَا الحَلاَلَ مِنْ قُلَلِهْ
وعن مجاهد {مُتَّكَئاً} طعاماً يحزّ حزّا، كأن المعنى يعتمد بالسكين؛ لأنّ القاطع يتكئ على المقطوع بالسكين. وقرئ: {متكا} بغير همز.
وعن الحسن: {متكاء} بالمدّ، كأنه مفتعال، وذلك لإشباع فتحة الكاف، كقوله (بمُنْتزاحِ) بمعنى بمنتزح. ونحوه (يَنْبَاعُ) بمعنى ينبع. وقرئ: {متكأ} وهو الأترج، وأنشد:
فَأَهْدَتْ مَتْكَةً لِبَنِي أبِيهَا *** تَخُبُّ بِهَا العَثْمَثَةُ الْوِقَاحُ
وكانت أهدت أترجة على ناقة، وكأنها الأترجة التي ذكرها أبو داود في سننه أنها شقت بنصفين، وحملا كالعدلين على جمل. وقيل: الزماورد وعن وهب: أترجا وموزاً وبطيخاً.
وقيل: أعتدت لهنَّ ما يقطع، من متك الشيء بمعنى بتكه إذا قطعه.
وقرأ الأعرج: {مُتَّكَئاَ} مفعلاً، من تكئ يتكأ، إذا اتكأ {أَكْبَرْنَهُ} أعظمنه وهبن ذلك الحسن الرائع والجمال الفائق. قيل: كان فضل يوسف على الناس في الحسن كفضل القمر ليلة البدر على نجوم السماء.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «مررت بيوسف الليلة التي عرج بي إلى السماء، فقلت لجبريل: من هذا؟ فقال يوسف، فقيل: يا رسول الله كيف رأيته؟ قال: كالقمر ليلة البدر».
وقيل: كان يوسف إذا سار في أزقة مصر يرى تلألؤ وجهه على الجدران، كما يرى نور الشمس من الماء عليها. وقيل: ما كان أحد يستطيع وصف يوسف. وقيل: كان يشبه آدم يوم خلقه ربه. وقيل: ورث الجمال من جدّته سارة. وقيل: أكبرن بمعنى حضن، والهاء للسكت، يقال: أكبرت المرأة إذا حاضت، وحقيقته: دخلت في الكبر لأنها بالحيض تخرج من حدّ الصغر إلى حدّ الكبر، وكأن أبا الطيب أخذ من هذا التفسير قوله:
خَفِ اللَّهَ وَاسْتُرْ ذَا الْجَمَالَ بِبُرْقَع *** فَإنْ لُحْتَ حَاضَتْ في الْخُدُورِ الْعَوَاتِقُ
{قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} جرحنها، كما تقول: كنت أقطع اللحم فقطعت يدي، تريد: جرحتها {حاشا} كلمة تفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء. تقول: أساء القوم حاشا زيد. قال:
حَاشَا أَبِي ثَوْبَانَ إنَّ بِه *** ضَنًّا عَنِ المَلْحَاةِ وَالشَّتْمِ
وهي حرف من حروف الجر، فوضعت موضع التنزيه والبراءة، فمعنى {حاشا الله} براءة الله وتنزيه الله، وهي قراءة ابن مسعود، على إضافة حاشا إلى الله إضافة البراءة. ومن قرأ: حاشا لله، فنحو قولك: سقيا لك؛ كأنه قال: براءة، ثم قال: لله، لبيان من يبرأ وينزه. والدليل على تنزيل {حاشا} منزلة المصدر: قراءة أبي السمال: {حاشا لله} بالتنوين. وقراءة أبي عمرو {حَاشَ للَّهِ} بحذف الألف الآخرة. وقراءة الأعمش {حشا لله} بحذف الألف الأولى. وقرئ: {حاش لله} بسكون الشين، على أن الفتحة تبعت الألف في الإسقاط، وهي ضعيفة لما فيها من التقاء الساكنين على غير حدّه. وقرئ: {حاشا الإله}.
فإن قلت: فلم جاز في حاشا لله أن لا ينوّن بعد إجرائه مجرى: براءة لله؟ قلت: مراعاة لأصله الذي هو الحرفية. ألا ترى إلى قولهم: جلست من عن يمينه، كيف تركوا (عن) غير معرب على أصله؟ وعلى قوله (غدت من عليه) منقلب الألف إلى الياء مع الضمير؟ والمعنى: تنزيه الله تعالى من صفات العجز، والتعجب من قدرته على خلق جميل مثله. وأما قوله: {حَاشا للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوء} [يوسف: 51] فالتعجب من قدرته على خلق عفيف مثله {مَا هذا بَشَرًا} نفين عنه البشرية لغرابة جماله ومباعدة حسنه، لما عليه محاسن الصور، وأثبتن له الملكية وبتتن بها الحكم، وذلك لأن الله عز وجل ركز في الطباع أن لا أحسن من الملك، كما ركز فيها أن لا أقبح من الشيطان، ولذلك يشبه كل متناه في الحسن والقبح بهما، وما ركز ذلك فيها إلا لأن الحقيقة كذلك، كما ركز في الطباع أن لا أدخل في الشر من الشياطين، ولا أجمع للخير من الملائكة، إلا ما عليه الفئة الخاسئة المجبرة من تفضيل الإنسان على الملك، وما هو إلا من تعكيسهم للحقائق، وجحودهم للعلوم الضرورية، ومكابرتهم في كل باب، وإعمال (ما) عمل (ليس) هي اللغة القدمى الحجازية وبها ورد القرآن.
ومنها قوله تعالى: {مَّا هُنَّ أمهاتهم} [المجادلة: 2] ومن قرأ على سليقته من بني تميم، قرأ: {بشر} بالرفع. وهي في قراءة ابن مسعود. وقرئ: {ما هذا بشرى} أي ما هو بعبد مملوك لئيم {إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} تقول هذا بشرى، أي حاصل بشرى، بمعنى: هذا بشرى. وتقول: هذا لك بشري أم بكري؟ والقراءة هي الأولى، لموافقتها المصحف؛ ومطابقة بشر لملك {قَالَتْ فذلكن} ولم يقل فهذا وهو حاضر، رفعاً لمنزلته في الحسن، واستحقاق أن يحب ويفتتن به، وربئاً بحاله واستبعاداً لمحله، ويجوز أن يكون إشارة إلى المعنى بقولهنّ: عشقت عبدها الكنعاني. تقول: هو ذلك العبد الكنعاني الذي صوّرتن في أنفسكنّ، ثم لمتننى فيه. تعني: أنكن لم تصوّرنه بحق صورته، ولو صوّرتنه بما عاينتن لعذرتني في الافتنان به. الاستعصام: بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ والتحفظ الشديد، كأنه في عصمة وهو يجتهد في الاستزادة منها. ونحوه استمسك واستوسع الفتق واستجمع الرأي واستفحل الخطب. وهذا بيان لما كان من يوسف عليه السلام لا مزيد عليه، وبرهان لا شيء أنور منه، على أنه بريء مما أضاف إليه أهل الحشو مما فسروا به الهمّ والبرهان.
فإن قلت: الضمير في {ءَامُرُهُ} راجع إلى الموصول، أم إلى يوسف؟ قلت: بل إلى الموصول. والمعنى: ما آمر به، فحذف الجار كما في قولك: أمرتك الخير، ويجوز أن تجعل (ما) مصدرية، فيرجع إلى يوسف ومعناه: ولئن لم يفعل أمري إياه، أي موجب أمري ومقتضاه. قرئ: {وليكونا} بالتشديد والتخفيف. والتخفيف أولى، لأنّ النون كتبت في المصحف ألفاً على حكم الوقف، وذلك لا يكون إلا في الخفيفة.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10